الحمد لله ربّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيّدنا محمَّد وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين
أما بعد فإن العالم قِسمان جِسْمٌ وعَرَضٌ ويُعبّر بعبارة أُخرى العالم جَوْهَرٌ وعَرَضٌ باختلاف علماء التوحيد، العالم قسمان جَوَاهِرٌ وأعراض، الجواهر ما يكون لها حجم في اصطلاحهم، والجوهر في اللغة الأصل، أصل الشىء يقال له جوهَرُهُ، والعالم الذي هو كل موجود سوى الله إنما ينقسم إلى قسمين الجواهر والأعراض الجواهر هي الأشياء التي لها حجم مهما كَبُرَ ذلك الحجم، أصغر الأجرام يقال له الجوهر “الفَرْد” وهو الجزء الذي لا يقبل بعد ذلك أن يتجزّأ لقلّته، لتَناهيْه في القلَّة لا يقبل أن يتَجزَّأ هذا يقال له الجوهر الفَرد، أمّا إذا لم يُقيّد بالفَرد يشمَل ما كانَ جِرمًا كبيرًا وما كان جِرمًا صَغيرًا كلٌّ يقال له جَوهر ويقالُ له جِرم، الجِرم يُجمع على أجْرام الجِرم بكسر الجيم، أما الجُرم بضمّ الجيم فهو الذَّنب،
وأمّا الأعراض فهو ما يقُومُ بالجِرم كالحرَكة والسّكون والاجتنابِ والاقتراب، والعَرَضُ في اللّغةِ ما لا يَدُوْم، فالحَركةُ لا تَدوم، توجَد فتَنعدم، العَرَض في اللّغةِ ما لا يدُوم أمّا في اصطلاح علماءِ التّوحيد فهو ما لا يَقُوم بذَاتِه أي يكونُ تابعًا للجِرم، فالعالَم ينحَصرُ في شيئين الجواهر والأعراض، الجواهرُ ما لهُ حَجم مهما تَناهَى في الصِّغر والقِلّة، وأمّا العَرَض فهو ما يقُوم بالجِرم ولا يقُوم بنفسِه كالحركة والسّكُون ، الحركةُ تقُوم بالجِرم، والسّكونُ كذلك يقُوم بالجِرم لا يقُوم بنَفسِه والنّوايا والعَزائم كذلكَ هي مما لا يقُوم بنفسه بل يقومُ بالجواهر، كمَا أنّ الحركةَ والسّكُون لا يقُومان بأنفُسِهما لا يقُومان بذاتهما بل يحتاجان للجِرم الذي يقومانِ به، كذلك النّوايا لا تُوجَدُ مستَقلّةً إنَّما هي تَتبَعُ الأجرام وكذلكَ الخَواطر تَتبَع الأجرام لا تُوجَدُ مستَقلَّة، العالم أي كلُّ ما سوى الله تعالى منَ الموجُودات يَنحَصِرُ في هذَين لا يخرُج عن هذين، فالله تبارك وتعالى عبَّر في القرآن بعِدّةِ مواضعَ بالشّىء وأرادَ بالشّىء في عدَّة مواضع منَ القرآن الموجود الذي هو سِوى الله أي الموجود الحادث منْ جَواهر ومِن أعراض، كلُّ موجُود وجُودُه حادِث أي لم يكن في الأَزل موجُودًا يُقالُ لهُ شىءٌ، ما مِن أحَدٍ إلاّ يُطلق عليه لفظُ شىء، والإطلاقُ الآخَرُ للشّىء وهو كلُّ شىءٍ يَقبَل العقلُ دخولَه في الوجود هذا الإطلاقُ الثاني، وهناكَ إطلاقٌ آخَر للشّىء وهو الموجودُ الذي ثبَت وجُودُه، وأمّا المستَحيلُ فهو الذي لا يصِحّ في العقلِ وجودُه، والممكنُ الذي هو جائزٌ عقلاً وجودُه تارةً وعدَمُه تارَةً كهذه العوالم التي حدَثَت بعدَ أن لم تكن موجودةً، ورَد في القرآن الكريم لفظُ الشّىء بمعنى الحادث الذي يَقبَلُ الوجُودَ والعَدَم وذلك في مِثل قوله تعالى: ((وهو على كلّ شَىءٍ قدير)) فقُدرة الله تعالى تتعَلّق بكلّ شىءٍ أي بكُلّ ما يجوّز العقلُ وجودَه، كلّ ما يجوّز العقلُ وجودَه فهو شىءٌ، الله تعالى بقدرته الأزليّة الأبديّة يُدخِلُ ما شاءَ منَ الممكناتِ العقليّة أي الجائزاتِ العقلية في الوجود يجعَلُه مَوجُودًا بعدَ أن كانَ مَعدُومًا، وبها أي بهذه القُدرة يَجعلُ الحادثَ الموجودَ مَعدومًا، فالشّىءُ في هذا الموضُوع يُفسَّر على هذا الوجه ((وهوَ على كلّ شَىء قَدير)) أمّا المستَحيلُ العقلِيّ لا يَدخُل هنا، القُدرةُ الإلهيّةُ ليسَ مِن وظِيفَتِها المستَحيل العقليّ أي ما لا يَقبَل العقلُ وجودَه ككون الحادث أزليًّا وكونِ الأزليّ حادثًا، ومِن هنا لا يقال: هَل يَقدِر اللهُ أن يكونَ إنسانًا أو نحو ذلك لأنّ الشىءَ الذي يَقبَل الوجودَ والعدَم أي يقبلُ الوجُودَ تارَةً والعَدَمَ تارَةً عَقلا هذا هوَ الشّىءُ الذي تتَسَلّطُ عليهِ القُدرَةُ الإلهيّة،فلا يُقال هل اللهُ قادرٌ على أن يخلُقَ مِثلَه، ولا يُقالُ إنّه قادرٌ على ذلك، ولا يُقالُ إنّه عَاجزٌ عن ذلك،.
فقولُه تعالى ((وهوَ على كلّ شَىءٍ قَدير)) المرادُ بالشّىء الممكنُ العقليّ، الجائزُ العقلِي، أي ما يصِحُّ وجودُه تارَةً وعدَمُه تارَةً أُخرَى،
العبارةُ التي تُنسَب للغزالي “ليسَ في الإمكان أبدَع ممّا كان” انتقدها العلماءُ وإن دافَع عنها بعضٌ. لأنّها تُوهِم أنّ اللهَ لا يستَطيعُ أن يخلقَ عالَمًا أحسَنَ مما خلَقَه، لهذا انتقَدَها بعضُهم.
قال الله تعالى: ((وللهِ المثَلُ الأعلَى)) أي الوَصفُ الذي لا يُشبِهُ وَصْفَ غَيرِه.
الشّىءُ يُطلَق في القرآن بمعنى الممكن العقليّ وهو في قوله تعالى: ((وهوَ على كُلّ شَىءٍ قَدير)) أي كلُّ ما يَقبَلُ العقلُ حصُولَه ودخُولَهُ في الوجود فالله تعالى يتَصَرّف فيه، هوَ يُخرِجُه منَ العَدَم إلى الوجود بمشيئتِه الأزليّة وهو يُعدِمُه على حسَب مشيئته الأزليّة، هو يوجِدُ الممكنَ العقليّ ثم يُعدمُه إن شاءَ ويُبقيْه إن كانَ شاءَ لهُ البقاءَ، العالَم لا يَخرُج عن هَذَين الأمرَين، كُلُّ ما دخَل في الوجود مِن جواهر أي أجرام وأعرَاض أي الصّفاتِ القائمةِ بالأجرام لم يكن موجُودًا في الأزل ثم أخرجَه الله منَ العَدَم فجعَلَه موجودًا، ثم هذا الذي أدخلَه اللهُ تعالى في الوجُود منهُ ما يبقَى لأنّ الله شاءَ لهُ البقاء ومنهُ ما لا يَبقَى لأنَ الله شاءَ أن يفنى، هذا معنى قولِه تعالى ((وهو على كلّ شىءٍ قدير)) وليس لفظُ الشّىء شاملاً للمستحيلاتِ العقليّة لأنّ المستحيلاتِ العقليّةَ لا تَقبَل الوجودَ أمّا المستحيلاتُ العاديّةُ تَقبَلُ الوجود، المستَحيلُ ثلاثةُ أقسام مستَحِيلٌ عَقلِيّ ومُستَحِيلٌ عادِيّ ومستَحِيلٌ شَرعيّ، المستحيلُ العاديّ هوَ منَ الجائز العقليّ، المستحيلُ العاديُّ كجبَلٍ مِن “زِئْبَق” هكذا يقول علماءُ العقيدة، وجودُ جبَلٍ مِن زِئْبِق العادةُ تُحِيْلُه لكنّ العقلَ لا يُحِيْلُه، كذلك المستحيلُ الشّرعيّ هو في حَدّ ذاته قد يكونُ جائزًا عقليًّا وقَد يكونُ مستَحيلا عقليًّا أيضًا، وقد يكونُ غيرَ مستحِيلٍ عقلا،
الجنَّةُ والنّار يجُوز عليهما عقلا الفَناءُ كلَّ لَحظَة أي أن يضمَحِلا ويتَلاشيَا العقلُ يُجِيزُ ذلكَ (بالنظر لذاتَيهِما) لكنّ الشّرع لا يجِيزُه لأنّ الله تعالى أخبرَ في كتابه المنـزّل أنّ الجنّةَ باقيَة لا تَفنى وأن جهنَّم باقيَة لا تفنى، هذا الفَرقُ بينَ المستَحِيل العادِيّ والمستَحِيل الشّرعيّ والمستحيلِ العقليّ،
فقوله تعالى: ((وهوَ على كلّ شَىءٍ قَدير)) المرادُ به ما هو منَ الممكناتِ العقليّة كلّ ما هو منَ الممكنات العقليّة فهو وظيفةُ القُدرَة،
الله تعالى يتَصرّف فيه بقُدرته يجعَلُ ما كانَ مَعدومًا غيرَ مَوجُودٍ موجُودًا بعدَ عدَم، ويجعَل ما وُجِدُ منهُ معدُومًا بعدَ وجودِه.
وأمّا المستَحيلُ العقليّ فهوَ كالشّريك لله تعالى والعَجز بالنّسبة إلى الله والجَهل بالنّسبة إلى الله، كلُّ ما لا يجُوز على الله فهو مستَحيلٌ عقليّ، كذلكَ منَ المستَحيل العقليّ كونُ الحادثِ أزليًّا أي لا ابتداءَ لوجُوده.
وأمّا إطلاقُ الشّىء في القرآن بالمعنى الشّاملِ للممكن العقليّ وللمستَحيل العقليّ وللواجب العقلِي فهو قوله تعالى ((وهوَ بكُلّ شَىءٍ علِيم)) هنا الشّىءُ يشمَل الممكناتِ العقليّة بأسرها ويشمَل المستحيلَ العقليّ بلا استثناءٍ ويَشمَل الواجبَ العقليّ، لأنّ عِلمَ الله تعالى شاملٌ للواجِب العقليّ وللمستَحيل العقليّ وللممكنِ العَقليّ، الواجبُ العقليّ أي الذي يجب عَقلا وجودُه ولا يُقبَل انتفاؤه الله تعالى وصفاتُه، قُدرتُه وعِلمُه وسَمْعُه وبصَرُه وحياتُه وإرادَتُه، الله تعالى ذاتُه واجبُ الوجُود ويُقالُ لهُ واجبٌ عقليٌّ، وجودُ الله تعالى واجبٌ عَقليّ وكذلكَ وجودُ صفاتِه واجبٌ عقلِيّ أي أنّ العَقل يُحتّمُ وجودَه ولا يَقبَل انتفاءَه، ما لا يَقبَلُ العقلُ انتفاءَه يُقال له واجبٌ عقليّ وهوَ اللهُ وصفاتُه،
وكذلكَ الحدوثُ للعالَم منَ الواجِب العقليّ لأنّ العَقلَ يُحتّمُ حدُوثَ العالَم أي دخولَه في الوجود بعدَ أن لم يكن موجودًا، والله تعالى يعلَمُ ذاتَه الذي هو أزليٌّ واجبُ الوجود ويَعلَم صِفاته التي هي أزليَّةٌ أبديّة ويَعلَم الممكنات العقليّة بأسرها كأفرادِ العالَم ويعلَم المستحيلاتِ العقليّة، يَعلَم أنّ كلَّ ما لا يَجُوز عليه مما يُنافي الألوهيّةَ مستَحيل لا يَقبَل الوجودَ يعلَم ذلك. فكلمةُ شىء في هذه الآية ((وهوَ بكُلّ شَىء علِيم)) شاملةٌ للجائز العقليّ، وهو الممكن العقليّ وهو شىء واحِد. الجائزُ العقليّ والممكن العقلي شىء واحد.
يقولُ علماءُ التّوحيدِ العِلمُ أي عِلمُ الله تعالى أعَمّ تَعَلُّقًا، متَعلّقَاتُه أوسَع، متعَلَّقَاتُ العِلم الإلهيّ أوسَع مِن متَعلَّقاتِ القُدرةِ الإلهيّة لأنّ القُدرةَ لا تتعَلّق بالمستحيل العقليّ لأنّه ليس مِن وظِيفَتِها، وأمّا العِلمُ فهو يتَعلّق بالواجِب العقليّ أيضًا والمستَحيل العقليّ بخِلاف القُدرة، القُدرَة لا تتَعلّقُ بالواجب العقليّ أي ما لا يقبَل العقلُ عَدَمَه، اللهُ تعالى واجبُ الوجود أزليّ أبدي ليسَ لقُدرته على ذلكَ وظيفة، لأنّ وظيفةَ القُدرَة إخراجُ المعدوم منَ العَدَم إلى الوجود وإعدامُ الموجود.
كَونُ العالَم حادثًا واجبٌ عَقليّ أمّا أَصلُ حدُوثِه أي دخوله في الوجود هذا منَ الممكِنات العقلِيّة.
الحمد لله رب العالمين