بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربّ العالمين لهُ النّعمَةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن صلَواتُ االلهِ البَر الرّحيم والملائكةِ المقرّبين على سيدِنا محمدٍ أشرفِ اللمرسَلِين وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسلين وسلامُ الله عليهم أجمعين
قال أهلُ الحقّ أهلُ السّنّة والجمَاعة لمّا كانَ اللهُ تبَارك وتعالى منفَردًا بالخلق أي الإحداثِ منَ العدَم إلى الوجود لا يُشَاركه في ذلكَ شَىءٌ لا مِن ذَوي الأرواح ولا مِنَ الجمَاداتِ ولا مِنَ الأسبابِ العاديّة، لا يُشاركُ الله تعالى شىءٌ في خَلق شىء مِن مَنفَعةٍ أو مضَرّةٍ أو عَينٍ أو أثَرٍ لما علِموا مِن قول الله تعالى “هَل مِن خَالقٍ غَيرُ الله” وقوله “وخلَق كُلَّ شَىء” وقوله “قُل اللهُ خَالقُ كلّ شَىء وهو الواحِدُ القَهّار” وقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم “إنّ اللهَ صَانعُ كلّ صانِع وصَنعَتِه” رواه البخاري والحاكم والبيهقي. فعلِمنا أنّ الأسبابَ العاديّةَ ليسَت خَالقةً لشَىء مِن مُسبَّباتها بل اللهُ خالقُ الأسبابِ والمسَبَّبات، وهذا الترَابُط بينَ الأسبابِ والمسَبَّبات أمرٌ أَجرَى اللهُ بهِ العادةَ أي أنّ اللهَ تَعالى يَخلُق المسبَّب عندَ وجودِ السّبَب فكلاهما أي السّبب والمسبَّب يَستنِدُ في وجودِه وحصُولِه ووقُوعِه إلى إيجادِ الله تعالى، وكثيرٌ منَ الناس يقِفُونَ في تَفكِيرهِم عندَ الظّاهِر فيَقضُون ويَحكُمون بأنّ هذه الأسبابَ هيَ تَخلُق المسَبَّبات وهذا خلافُ الحقيقةِ ، لو كانتِ الأسبابُ تَخلُق المسَبَّبات لوَجَب حصُولُ المسبَّب عندَ كُلّ سبَب والواقعُ خِلافُ ذلك، نجِدُ كثِيرًا منَ الأسباب تُستَعمَل ولا يُوَجَدُ إثْرَها المسبَّب فبذلكَ يُعلَم أنّ الأسبابَ بقدَر اللهِ والمسَبَّباتِ بقَدَر الله فإنْ سبَق في مشيئة الله وعِلمِه الأزليّين وجود هذا المسبَّب إثْر السّبَب كان ذلكَ حتمًا حصولُه، لأنّ اللهَ شاءَ وعلِمَ أنّ هذا السبَب يَحصُل إثْرُه المسبَّب لا محَالَة مِن ذلك، أمّا إن لم يكن سبَق في عِلم الله ومشيئتِه حُصول المسبَّب إثْر هذا السّبَب فلا يحصُل ذلك المسبَّب. روينا فيما يَشهَد لهذا حديثا في صحيح ابنِ حِبّان أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال “إنّ اللهَ خَلقَ الدّاءَ وخَلَق الدّواء فإذَا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ برَأَ بإذنِ الله” (عن جابر عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال “لكُلّ داءٍ دَواءٌ فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ برَأ بإذنِ الله عزّ وجَل” رواه البخاري ومسلم وغيرهما)
قوله عليه الصلاة والسلام برَأ بإذنِ اللهِ دليلٌ على أنّ الأسبابَ مِن أدويةٍ وغيرِها لا تُوجِبُ في طَبعِها، بذاتها، حصولَ المسبَّب وشاهدُ الواقع يَشهَدُ بذلك، نَرى كثيرًا منَ النّاس يتَداوَون بدواءٍ واحِد وأمرَاضُهم مُتّحِدة فيتَعافى بعضٌ منهُم ولا يتَعافى الآخَرُون فلو كانَ الدّواءُ هو يَخلُق الشّفاء، المسبَّب الذي هو الشّفاء، إذا كانَ كلُّ واحِد يَستَعمِل ذلكَ الدّواءَ يتَعافى حتمًا ولم يكن هناكَ حصولُ الشّفاء لبَعض وعدَم حصولِه لبَعض، لهذا قال عليه الصلاة والسلام “فإذَا أُصِيبَ دَواءُ الدّاءِ برَأ بإذنِ الله” فبذلكَ نَعلَمُ أنّ الأدويةَ وجُودها بتقدير الله والشّفاء بتَقدير الله ليسَت الأدويةُ تَخلُق الشّفاء بحيثُ لا يتَخلَّف عندَ استِعمال أيّ دواءٍ حصُول الشّفاء إثْره، كذلكَ سائرُ الأسباب العاديّة النارُ ليسَت مُوجِبَة لحصولِ الاحتراق إنما الله تعالى شاءَ أن يَحصُلَ إثْر مماسّةِ النّارِ للشّىء الاحتراق، فإذا حصَلت مماسّةُ النار لشَىء ولم يحصُل الاحتراقُ علِمنا بأنّ المانعَ مِن حصُولِ الاحتراق إثْر مماسّة النارِ هو أنّه سبَقَ في عِلم الله ومشيئته الأزليَّين أنّه لا يحصل الاحتراقُ إثرَ مماسّة النار لهذا الشىء، الله تبارك وتعالى خلَق ألوانًا وأشكالا مِن ذوات الأرواح جعَل في بعضِها ما لم يجعل في الآخَر، مِن هذا الطّير المسمّى السّمَندَل ويقالُ له السّمَنْد بلا لام ويقالُ له السَّنْدَل بالسّين هذا معروفٌ أنّه لا يَحصُل له احتراقٌ ، جِلدُه لا يَحترق بالنار، وهو هذا الحيوان في حياتِه يَدخُل النار ويتَهنأ فيها وهو عزيزُ الوجود، يقولُ ابنُ خَلّكَان في تاريخه عن اللغويّ المشهور عبد اللطيف البغدادي، هذا من أئمّة اللغة، يقول شاهَدتُ قِطعة مِن جِلدِ السّمَندل أُهدِيَت إلى الملِك الظّاهِر بنِ الملِك الصّالح صلاحِ الدّين عَرض ذراع في طُول ذِراعَين صارُوا يَغمِسُونها في الزّيت ثم يُشعلُونها فتَنشَعِل النار ثم تنطفئ النارُ وتَبقَى تلكَ القِطعة بَيضاءَ نقِيّة، وهذا الحيوانُ كغَيرِه مِن الحيواناتِ مؤلَّف مِن لحم ودم وعَظم، فلو كانت النارُ تَخلُق الإحراقَ بطَبْعها لم يحصُل تخَلّف الإحراق للسمندَل إذا مسّتْه النار، بل كان يحترقُ كما يحترقُ غيرُه، قال بعضُ الشّعراء مِن شعَراء الأندلس وهو جابرُ بنُ صَابر المِنجَنيقي وهو من شعراءِ القرن السابع :
قُل لمنْ يَدّعِي الفخَارَ دَعِ الفَخْر لِذِي الكِبْرِ والجَبرُوتِ
نَسجُ داودَ لم يُفِدْ ليلةَ الغَارِ وكانَ الفخَارُ للعَنكَبُوتِ
معناه ليلةَ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الغار هو وأبو بكر حمَاهما الله تعالى بنَسْج العنكبوت فكانَ الفَضلُ لنسج العَنكبوت ولم يكن هذا الفَضلُ لنَسج داود، نسجُ داودَ هو الدّرْع، معناه الله تعالى لم يحمِهما بنَسْج داود بل حماهما بنَسج العنكبوت وهو منَ الخَلْق الضعيف. قال :
وبقاءُ السّمَنْد في لهبِ النّارِ مُزِيلٌ فَضِيلَة اليَاقُوتِ
وكذاكَ النّعامُ يَستَمرئ الجَمْرَ وما الجمرُ للنّعامِ بقُوتِ
المعنى أنّ الياقوتَ إذا لم يؤثّر بهِ النارُ فلَيس ذلكَ أمرًا مُستَغرَبا لأنّه حجَرٌ أمّا السّمَند فهو مِن لحم ودم. يعني أنّ عدَم احتراقِ السّمَند في لهب النار يدُلّ على أنّ لهُ مِيْزَة ليسَت لليَاقُوت، فالحاصِل أنّهُ يجِبُ اعتقادُ أنّ الأسبابَ لا تخلُق مُسَبّباتها بل اللهُ يَخلُق المسبَّبات إثْرَ الأسباب أي أنّه تعالى هو خالقُ الأسباب وخالقُ مُسبَّباتها وعلى هذا المعنى يُشهَر ما شاعَ وانتشَر على ألسنة المسلمين في أثناءِ أدعِيَتِهم يا مُسَبّبَ الأسباب معناهُ أنّ اللهَ تعالى هو الذي خلَق في الأسبابِ حصُولَ مسَبَّباتها إثرَ استعمالها وهذا مِن كلام التّوحيد الذي هو اشتهر وفشَى على ألسنة المسلِمين علمائهم وعوامّهِم وهو يرجِعُ إلى تَوحيدِ الأفعال أي أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي فِعْلُه لا يتَخَلّف أثَرُه، إذا شاءَ حصُولَ شَىء إثْرَ مُزَاولةِ شَىء حصَلَ لا محَالةَ ، لا بُدّ، فكمَا أنّ اللهَ تبارك وتعالى هو خالقُ المسَبَّبات إثْرَ استعمالِ الأسباب فهوَ خَالقُ العبادِ حَركاتِهم وسَكناتِهم لا خالقَ لشَىءٍ مِن ذلكَ غَيرُه.
الحمد لله رب العالمين